مقدمة: الحمد لله عظيم العطايا والصلات، العليم بالسرائر والخفيات، المخصوص بالطيبات والتحيات، القائل في كتابه الكريم: (أقيموا الصلاة).
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في الربوبية ولا العبادات، ولا في الأسماء ولا الصفات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل المخلوقات، وأزكى البريات، القائل: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه الطيبات الطاهرات.
أما بعد: فقد روى النسائي وغيره عن أنس - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حبِّب إليّ النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة))، وقد كان هذا الحديث يستوقفني كثيرًا من حيث صحته ومعانيه وألفاظه ودلالاته، وكلما أردت تأمله، والغوص في معانيه.
وتتبع كلام العلماء فيه شغلني عنه شاغل، حتى جاءت الفرصة المناسبة، فقرأت جملة كبيرة مما سطرته يراع العلماء عن هذا الحديث، فأخذت المحبر والكاغد، فدونت ما استحسنته من كلامهم، ثم عدت فنسقته ونظمته، فكان الكلام على الحديث من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: تخريجه:
رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو يعلى في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في الأوسط، والضياء المقدسي في المختارة، وابن سعد في الطبقات الكبرى، وابن عدي في الكامل، والعقيلي في الضعفاء، وابن أبي حاتم كلهم من طريق سلام أبو المنذر عن ثابت البناني عن أنس –رضي الله عنه-مرفوعًا، قال الإمام أحمد: "سلام أبو المنذر حسن الحديث"، ورواه النسائي في السنن الكبرى، والحاكم في مستدركه من طريق سيار بن حاتم ثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس –رضي الله عنه-
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حبب إليّ النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)). وهذا لفظ النسائي، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، قال ابن حجر في فتح الباري: "وسنده صحيح"، وقال في تلخيص الحبير: "رواه النسائي وإسناده حسن"، وقال الزين العراقي: "وسنده جيد"، وقال الذهبي في الميزان: "وإسناده قوي"، وليس في شيء من كتب الحديث المعتمدة زيادة: ((حبب إليّ من دنياكم ثلاث)).
ولذلك ردها كثير من الأئمة والحفاظ لنكارتها من حيث عدم ورودها ولشذوذها معنىً، فإن الصلاة ليست من الدنيا بل هي من الدين التي تنفع صاحبها في الآخرة، ولقد حاول بعضهم إثباتها في تخريجات وكلام طويل مبسوط في كتب الحديث، ولكن الأظهر ما قاله الأولون، وممن أنكرها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في مجموع الفتاوى: "وكان النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب)).
ثم يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))، ولم يقل: "حبب إلىّ من دنياكم ثلاث"، كما يرفعه بعض الناس بل هكذا رواه الإمام أحمد والنسائي..."، وأنكرها كذلك ابن القيم، وقال في زاد المعاد: "هذا لفظ الحديث، ومن رواه حبب إليّ من دنياكم ثلاث، فقد وهم ولم يقل - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث))، والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها".
وقال السخاوي في المقاصد الحسنة: "وأما ما استقر في هذا الحديث من زيادة ثلاث؛ فلم أقف عليها إلا في موضعين من الإحياء؛ وفي تفسير آل عمران من الكشاف، وما رأيتها في شيء من طرق هذا الحديث بعد مزيد التفتيش؛ وبذلك صرح الزركشي فقال: إنه لم يرد فيه لفظ ثلاث قال: وزيادته محيلة للمعنى فإن الصلاة ليست من الدنيا"؛ قال: "وقد تكلم الإمام أبو بكر بن فورك على معناه في جزء، ووجه ما ثبت فيه الثلاث، ونحوه قول شيخنا في تخريج الرافعي تبعًا لأصله: وقد اشتهر على الألسنة بزيادة: ثلاث،...
ولم نجد لفظ ثلاث في شيء من طرقه المسندة، وقال في موضع آخر: قد وقفت على جزء للإمام أبي بكر بن فورك أفرده للكلام على هذا الحديث وشرحه على أنه ورد بلفظ الثلاث، ووجهه وأطنب في ذلك، وقال: في تخريج الكشاف إن لفظ ثلاث لم يقع في شيء من طرقه، وزيادته تفسد المعنى،... وكذا قال الولي العراقي في أماليه: ليست هذه اللفظة وهي ثلاث في شيء من كتب الحديث وهي مفسدة للمعنى، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا". ا.هـ
وقد أشار العقيلي إلى ضعف الحديث بسبب سلام أبو المنذر، لكن تعقبه ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية فقال: "وما أشار إليه العقيلي من أن هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه مردود بما مر، وبقول شيخ الإسلام ابن حجر رواه النسائي وإسناده حسن، وقول الزين العراقي في تخريج الإحياء رواه النسائي والحاكم: وإسناده جيد وقول الذهبي: إسناده قوي... ".
الوجه الثاني: معناه وكلام العلماء فيه:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((حبب)) وفي رواية: ((إنما حبب))، وهذا من بلاغة لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يقل (أحب)؛ لأنه لم يكن ليحبها ابتداءّ، والدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وكان يحذر الناس منها ويزهدهم فيها، قال المناوي في فيض القدير: "ثم إنه لم يضفها لنفسه فما قال: أحب تحقيرًا لأمرها؛ لأنه أبغض الناس فيها، لا لأنها ليست من دنياه بل من آخرته.
كما ظن إذ كل مباح دنيوي ينقلب طاعة بالنية فلم يبق لتخصيصه حينئذ وجه، ولم يقل من هذه الدنيا؛ لأن كل واحد منهم ناظر إليها وإن تفاوتوا فيه، وأما هو فلم يلتفت إلا إلى ما ترتب عليه مهم ديني... "، وقال الطيبي: "جيء بالفعل (حُبب) مجهولًا دلالة على أن ذلك لم يكن من جبلته وطبعه.
وإنما هو مجبول على هذا الحب رحمة للعباد ورفقًا بهم"، وقال الشاطبي في الموافقات: "لا يلزم من حب الشيء أن يكون مطلوبًا بحظ؛ لأن الحب أمر باطن لا يملك، وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال فمن أين لك أنه كان - عليه الصلاة والسلام - يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ دون أن يتناوله من حيث الأذن...) إلخ.
قال الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات: "قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: ووجدت بخط الكمال ابن البرهان: سمعت الشيخ أبا عبد الله يقول: دخلت دمشق فحضرت مجلس واعظ كان معظمًا فيها فقال: ليس أحد يخلو من هوى، فقال له شخص: ولا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: ولا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فأنكرت عليه فقال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((حبب إليّ من دنياكم ثلاث))، فقلت: هذا عليك؛ لأنه ما قال: (أحببت)، ثم فارقته، ورأيت قائلًا يقول لي في النوم أو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد ضربنا عنقه، فخرج من دمشق فقتل".
قوله: ((من دنياكم))، وفي رواية عند أحمد ((من الدنيا))، وفي رواية بدونهما وهو لفظ النسائي، قال بعض العلماء (من الدنيا) أي: في الدنيا، فيكون "من" بمعنى "في"، فكأنه قال: (حبب إليّ في الدنيا) أي: مدة كوني فيها هذه الأشياء الثلاثة.
فيكون هذه الأشياء في الدنيا لا من الدنيا، وإن كانت فيها، قال الكلاباذي في بحر الفوائد: "فيكون فيه إشارة إلى أنه ليس له فيها حظ، ولا إليها نظر، ولا لها عنده حظ، وأنها بغيضة رأسًا، والذي حبب إليه فيها ما هو لله - عز وجل –".
((النساء)): أي الإكثار منهن، ولقد ذكر بعض العلماء حكمة هذا التحبيب فقيل: "زيادة في الابتلاء والتكليف حتى يلهو بما حبب إليه من النساء عما كلف من أداء الرسالة، فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره"، وقيل: "لتكون خلواته مع ما يشاهدها من نسائه فيزول عنه ما يرميه به المشركون من أنه ساحر أو شاعر، فيكون تحبيبهن إليه على وجه اللطف به"، وعلى القول الأول على وجه الابتلاء، وعلى القولين فهو له فضيلة.
وأما حكمة إباحة نكاح أكثر من أربع بالنسبة له - صلى الله عليه وسلم - فقد قال المناوي في الفيض: "والإكثار منهن لنقل ما بطن من الشريعة مما يستحيا من ذكره من الرجال، ولأجل كثرة سواد المسلمين ومباهاته بهم يوم القيامة"، ونقل السيوطي في شرحه على النسائي قول السبكي:
"السر في إباحة نكاح أكثر من أربع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن الله - تعالى - أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها وما يستحيا من ذكره وما لا يستحيا منه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حياء، فجعل الله - تعالى - له نسوة ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله التي قد يستحيي من الإفصاح بها بحضرة الرجال ليكتمل نقل الشريعة، وكثر عدد النساء ليكثر الناقلون لهذا النوع، ومنهن عُرف مسائل الغسل والحيض والعدة ونحوها".
قال: "ولم يكن ذلك لشهوة منه في النكاح، ولا كان يحب الوطء للذة البشرية -معاذ الله-، وإنما حبب إليه النساء لنقلهن عنه ما يستحيي هو من الإمعان في التلفظ به، فأحبهن لما فيه من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب، وأيضًا فقد نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه وحالة خلوته من الآيات البينات على نبوته، ومن جده واجتهاده في العبادة.
ومن أمور يشهد كل ذي لب أنها لا تكون إلا لنبي وما كان يشاهدها غيرهن فحصل بذلك خير عظيم... "، وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري(9 115) أن الذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه ثم سردها، وأضاف عليها الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - فأوصلها إلى خمس عشرة حكمة، فلتراجع.
قال علي القاري في مرقاة المفاتيح: "مسألة قوله: ((حبب إليً من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)) لم بدأ بالنساء، وأخر الصلاة؟، الجواب: لما كان المقصود من سياق الحديث ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من متاع الدنيا بدأ به كما قال في الحديث:
((ما أصابنا من دنياكم هذه إلا النساء))، ولما كان الذي حبب إليه من متاع الدنيا هو أفضلها وهو النساء بدليل قوله في الحديث الآخر: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) ناسب أن يضم إليه بيان أفضل الأمور الدينية، وذلك الصلاة فإنها أفضل العبادات بعد الإيمان، فكان الحديث على أسلوب البلاغة من جمعه بين أفضل أمور الدنيا وأفضل أمور الدين... ".
قوله: ((الطيب)): قال المناوي: "لأنه -أي الطيب- حظ الروحانيين، وهم الملائكة ولا غرض لهم في شيء من الدنيا سواه، فكأنه يقول: حبي لهاتين الخصلتين إنما هو لأجل غيري... "، قلت: ولأنه من سنن المرسلين كما ورد في الحديث".
قوله: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)): قال القاضي عياض في مشارق الأنوار: "أكثر الأقوال فيها وهو الأظهر أنها الصلاة الشرعية المعهودة لما فيها من المناجاة وكشف المعارف وشرح الصدور، وقيل: بل هي صلاة الله عليه وملائكته مما تضمنته الآية".
ولقد تفنن بعض العلماء في استنباط بلاغة هذه الجملة البليغة منه - صلى الله عليه وسلم -، ومن أفضل اللفتات فيها قول الطيبي السابق: "جيء بالفعل (حبب) مجهولًا دلالة على أن ذلك لم يكن من جبلته وطبعه، وإنما هو مجبول على هذا الحب رحمة للعباد ورفقًا بهم، بخلاف الصلاة فإنها محبوبة له بذاتها، ومنه قوله: ((أرحنا يا بلال بالصلاة)).
أي اشغلنا عما سواها بها فإنها تعب وكدح وإنما الاسترواح في الصلاة فأرحنا بالنداء بها، فلذلك قال: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))"، وقال السيوطي في الحاوي للفتاوى: "وعبر في أمر الدين -يقصد ((وجعلت قرة...))- بعبارة أبلغ مما عبر به في أمر الدنيا على مجرد التحبيب، وقال في أمر الدين: ((جعلت قرة عيني..)) فإن قرة العين من التعظيم في المحبة ما لا يخفى... ".
الوجه الثالث: فوائده وأحكامه:
لقد وقف بعض العلماء عند هذا الحديث وقفات جميلة، ومن أجمل الوقفات ما سطرته يراع ابن تيمية، وتلميذه النجيب ابن القيم - رحمهما الله - في مواضع عدة من كتبهما، ولم أجد نفسي بعدهما تحتاج إلى تعليق غيرهما، إذ على الخبير سقطت كما يقال، وما سطراه لا يدع القارئ يعرض عن التدوين والاقتطاف، وأجدني مضطرًا إلى نقل شيء من كلامهما، وكلام غيرهما من العلماء بعد ذكر فوائد الحديث: فمن فوائده:
- الفائدة الأولى:
أنه لا تثريب على الزوج في ميله لزوجته ومحبته إياها، وذكر ذلك الحب صراحة، يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان: "فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة، وإن أعانت على محبة الله ورسوله، وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الشراب البارد الحلو.
ويحب الحلواء، والعسل ويحب الخيل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه، فإن نوى به القوة على أمر الله - تعالى - وطاعته كانت قربة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب ولم يعاقب.
وإن فاته درجة من فعله متقربًا به إلى الله، فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله - تعالى -واجتناب معصيته، والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله - تعالى -، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله - تعالى - أو تنقصها، فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق... ".
- الفائدة الثانية:
فيه أن الصلاة هي قرة عيون المحبين، وبها وعندها الراحة، ولا يجدون الأنس والطمأنينة والسكينة إلا فيها حيث الخشوع والخضوع والتذلل لله والانكسار بين يديه، قال ابن حجر: "ومن كانت قرة عينه في شيء، فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمه، وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب، فإن السالك غرض الآفات والفتور".
وقد بلغت الصلاة عنده - صلى الله عليه وسلم - مبلغًا لم يبلغه أحد سواه حيث بلغت مرتبة فوق درجة المحبة، وهي مرتبة قرة العين وراحة البال، يقول ابن القيم في رسالة له إلى أحد إخوانه: "وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم أهل الجنة إلا هذا، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
فأخبر أنه حبب إليه من الدنيا شيئان: النساء والطيب، ثم قال: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
وقرة العين فوق المحبة، فإنه ليس كل محبوب تقر به العين، وإنما تقر العين بأعلى المحبوبات الذي يحب لذاته، وليس ذلك إلا الله الذي لا إله إلا هو، وكل ما سواه فإنما يحب تبعًا لمحبته، فيحب لأجله ولا يحب معه، فإن الحب معه شرك، والحب لأجله توحيد...
والمقصود أن ما تقر به العين أعلى من مجرد ما يحبه، فالصلاة قرة عيون المحبين في هذه الدنيا لما فيها من مناجاة من لا تقر العيون ولا تطمئن القلوب ولا تسكن النفوس إلا إليه، والتنعم بذكره والتذلل والخضوع له والقرب منه، ولا سيما في حال السجود وتلك الحال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها، ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)).
فأعلم بذلك أن راحته في الصلاة كما أخبر أن قرة عينه فيها، فأين هذا من قول القائل: نصلي ونستريح من الصلاة؟! فالمحب راحته وقرة عينه في الصلاة، والغافل المعرض ليس له نصيب من ذلك، بل الصلاة كبيرة شاقة عليه، إذا قام فيها كأنه على الجمر حتى يتخلص منها، وأحب الصلاة إليه أعجلها وأسرعها، فإنه ليس له قرة عين فيها ولا لقلبه راحة بها، والعبد إذا قرت عينه بشيء واستراح قلبه به فأشق ما عليه مفارقته.
والمتكلف الفارغ القلب من الله والدار الآخرة المبتلى بمحبة الدنيا أشق ما عليه الصلاة، وأكره ما إليه طولها مع تفرغه وصحته وعدم اشتغاله، ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقر بها العين ويستريح بها القلب هي التي تجمع ستة مشاهد.
المشهد الأول: الإخلاص:
وهو أن يكون الحامل عليها والداعي إليها رغبة العبد في الله، ومحبته له وطلب مرضاته، والقرب منه والتودد إليه وامتثال أمره، بحيث لا يكون الباعث له عليها حظًا من حظوظ الدنيا البتة، بل يأتي بها ابتغاء وجه ربه الأعلى محبة له وخوفًا من عذابه ورجاءً لمغفرته وثوابه.
المشهد الثاني: مشهد الصدق والنصح:
وهو أن يفرغ قلبه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها، وإيقاعها على أحسن الوجوه وأكملها ظاهرًا وباطنًا، فإن الصلاة لها ظاهر وباطن، فظاهرها الأفعال المشاهدة والأقوال المسموعة، وباطنها الخشوع والمراقبة وتفريغ القلب لله والإقبال بكليته على الله فيها بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره.
المشهد الثالث: مشهد المتابعة والاقتداء:
وهو أن يحرص كل الحرص على الاقتداء في صلاته بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويصلي كما كان يصلي، ويعرض عما أحدث الناس في الصلاة من الزيادة والنقصان، والأوضاع التي لم ينقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء منها ولا عن أحد من أصحابة.
المشهد الرابع: مشهد الإحسان:
وهو مشهد المراقبة، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته... فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض، وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد.
المشهد الخامس: مشهد المنة:
وهو أن يشهد أن المنة لله - سبحانه - كونه أقامه في هذا المقام، وأهله له، ووفقه لقيام قلبه وبدنه في خدمته، فلولا الله - سبحانه - لم يكن شيء من ذلك... وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد، وكلما كان العبد أعظم توحيدًا كان حظه من هذا المشهد أتم.
المشهد السادس: مشهد التقصير:
وأن العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد، وبذل وسعه فهو مقصر، وحق الله - سبحانه - عليه أعظم، والذي ينبغي له أن يقابل به من الطاعة والعبودية والخدمة فوق ذلك بكثير، وأن عظمته وجلاله - سبحانه - يقتضي من العبودية ما يليق بها..." ثم قال: "وملاك هذا الشأن أربعة أمور: نية صحيحة، وقوة عالية يقارنهما رغبة ورهبة.." أ. هـ مختصرًا.
وقال في طريق الهجرتين معلقًا على الحديث: "فقرة العين فوق المحبة، فجعل النساء والطيب مما يحبه، وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها، ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة الله وحضور بين يديه، ومناجاة له واقتراب منه، فكيف لا تكون قرة العين، وكيف تقر عين المحب بسواها، فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه، وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه... " إلخ.
وقال - رحمه الله - في مدارج السالكين واصفًا حال المحبين الصادقين: "فإن عبادتهم طوعًا ومحبة ورضًا، ففيها قرة عيونهم، وسرور قلوبهم، ولذة أرواحهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))، وكان يقول: ((يا بلال، أرحنا بالصلاة))، فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه في طاعة محبوبه، بخلاف المطيع كرهًا المتحمل للخدمة ثقلًا... ".
وقال شيخه ابن تيمية: "كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان، والأسباب المقوية للإيمان كثيرة، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حبب إليّ من ديناكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
وفي حديث آخر أنه قال: ((أرحنا يا بلال بالصلاة))، ولم يقل: أرحنا منها، وفي أثر آخر: ليس بمستكمل للإيمان من لم يزل مهمومًا حتى يقوم إلى الصلاة، أو كلام يقارب هذا... " إلخ، وقال في مجموع الفتاوى: "وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله وطمأنينة بذكره، وتنعمًا بمعرفته، ولذة وسرورًا بذكره ومناجاته، وذلك يقوى ويضعف ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق.
فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل، ولهذا قال في الحديث الذي رواه أحمد وغيره: ((حبب إليّ من ديناكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة))، وكان يقول: ((أرحنا بالصلاة يا بلال...))" إلخ.
وقال في موضع آخر من مجموع الفتاوى: "وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان والمعرفة، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((أرحنا بالصلاة يا بلال))، ولا يقول: أرحنا منها كما يقوله من تثقل عليه الصلاة كما قال - تعالى -: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة: 45].
والخشوع الخضوع لله - تعالى - والسكون والطمأنينة إليه بالقلب والجوارح، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب..))، ثم يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))، ولم يقل: حبب إليّ من دنياكم ثلاث كما يرفعه بعض الناس، بل هكذا رواه الإمام أحمد والنسائي أن المحبب إليه من الدنيا النساء والطيب، وأما قرة العين تحصل بحصول المطلوب، وذلك في الصلاة... " إلخ.
- الفائدة الثالثة:
قال السيوطي في شرحه على سنن النسائي: "وفي هذا الحديث إشارة إلى وفائه - صلى الله عليه وسلم - بأصلي الدين وهما: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وهما كمالا قوتيه النظرية والعملية، فإن كمال الأولى: بمعرفة الله، والتعظيم دليل عليها؛ لأنه لا يتحقق بدونها، والصلاة لكونها مناجاة الله - تعالى - على ما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((المصلي يناجي)) ربه نتيجة التعظيم على ما يلوح من أركانها ووظائفها، وكمال الثانية: في الشفقة وحسن المعاملة مع الخلق وأولى الخلق بالشفقة بالنسبة إلى كل واحد من الناس نفسه وبدنه.
كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ابدأ بنفسك ثم بمن تعول))"، إلى أن قال: "ثم إن معاملة النساء أصعب من معاملة الرجال؛ لأنهن أرق دينًا وأضعف عقلًا، وأضيق خلقًا، كما قال - صلى الله عليه وسلم - ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، فهو - عليه الصلاة والسلام - أحسن معاملتهن بحيث عوتب بقوله - تعالى -: (تبتغي مرضات أزواجك) [التحريم: 1]، وكان صدور ذلك منه طبعًا لا تكلفًا كما يفعل الرجل ما يحبه من الأفعال، فإذا كانت معاملته معهن هذا، فما ظنك بمعاملته مع الرجال الذين هم أكمل عقلًا، وأمثل دينًا، وأحسن خلقًا... " الخ.
- الفائدة الرابعة:
في هذا الحديث الرد على من يجزم أن معيار التدين هو المبالغة في التقشف، والرهبنة والامتناع عما أباحه الله من الطيبات، وظنوا أن الزهد إنما يكون في الظاهر وما يبدو للناس، وذلك لجهلهم بهدي وسيرة سيد المرسلين، فقد كان أخشى الناس لله وأتقاهم له، ولكنه يصوم ويفطر ويقوم ويرقد ويتزوج النساء.
كما صح في الحديث المتفق عليه الذي قال في نهايته: ((ومن رغب عن سنتي فليس مني))، ولم ينقل عنه فعل ما يفعله بعض المتزهدة المخالفة لهديه، وذلك لأن حقيقة الزهد عنده - صلى الله عليه وسلم - في الباطن.
وفي علاقة العبد بربه، ومراقبته له، وخشيته والتذلل له، وليس الزهد في المظهر والملبس، فها هو - صلى الله عليه وسلم - من أشد الناس عناية بنظافة جسمه، وبالطيب وحسن الملبس، مع أنه لا يختلف في أنه سيد المتزهدين - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "فالزهد في الدنيا يراد به تفريغ القلب من الاشتغال بها ليتفرغ لطلب الله ومعرفته والقرب منه والأنس به والشوق إلى لقائه، وهذه الأمور ليست من الدنيا كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)). ولم يجعل الصلاة مما حبب إليه من الدنيا كذا في المسند والنسائي... " إلخ.
- الفائدة الخامسة:
في الحديث مشروعية التطيب، والإكثار منه ومعاهدته، قال ابن القيم في زاد المعاد: "وكان - صلى الله عليه وسلم - يكثر التطيب، وتشتد عليه الرائحة الكريهة وتشق عليه، والطيب غذاء الروح التي هي مطية القوى، تتضاعف وتزيد بالطيب.
كما تزيد بالغذاء والشراب والدعة والسرور ومعاشرة الأحبة وحدوث الأمور المحبوبة وغيبة من تسر غيبته، ويثقل على الروح مشاهدته كالثقلاء والبغضاء... والمقصود أن الطيب كان من أحب الأشياء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله تأثير في حفظ الصحة، ودفع كثير من الآلام، وأسبابها بسبب قوة الطبيعة به".
وفي الختام أسأل الله - تعالى - أن يجعل أعمالنا وأقوالنا صالحة، ولوجهه خالصة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجعل هذا الكلام حجة لنا لا حجة علينا، وأن يفقهنا في الدين، ويزيدنا علمًا إنه جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصدر: موقع المختار الإسلامي